تحرير العقل- نقد تقديس البشر وأثره على المجتمعات الإسلامية.

المؤلف: أسامة يماني10.20.2025
تحرير العقل- نقد تقديس البشر وأثره على المجتمعات الإسلامية.

في أرجاء العالم الإسلامي، يسود إيمان راسخ بالأحكام التي يفرضها البشر، والتي غالباً ما تتجاوز في تقديسها ما هو مُقدَّس فعلاً. لقد أضفى البشر هالة من القداسة على العديد من الاجتهادات، حتى غدت مع مرور الزمن بمثابة مُسلَّمات لا يجوز مخالفتها، ممَّا أسفر عن إزهاق أرواح بريئة ظلماً وتعسُّفاً. وخير مثال على ذلك هو تحويل مفهوم جهاد النفس إلى فريضة تُبرِّر قتل المخالف، أو اعتبار الحجاب فرضاً قاطعاً على جميع النساء في أماكن العمل، كما فعل أحد قادة الثورات الإسلامية، معتبراً غير المحجبات "عاريات".

ويرى أستاذ الفلسفة، حسن حماد، أنَّ الدولة الدينية والدول التسلطية والقمعية تمارس وصاية مُغلَّفة على الأخلاق العامة والخاصة، وتنصِّب نفسها حارساً أميناً على ميراث القيم والتقاليد والموروثات، وتتَّخذ من هذه الوصاية ذريعة للتدخل في شؤون الأفراد كبيرها وصغيرها. وعلى النقيض من ذلك، تمنح الدول الليبرالية أفرادها هامشاً أوسع من الحريات، ليصبح الفرد قادراً على صياغة قيمه الخاصة بالشكل الذي يراه مُناسباً، دون المساس بالقوانين. وفي سياق مُشاركتها في مناظرة بعنوان "هل حماية الأخلاق العامة واجب الدولة؟"، أشارت الكاتبة الجزائرية، هاجر حمادي، إلى أنَّ تحديد مفاهيم ثابتة ومتطابقة لدى جميع أفراد المجتمع يُعتبر "شمولية فكرية وقمعاً اجتماعياً". وتضيف أنَّ العديد من المجتمعات في المنطقة تسعى إلى توحيد الفكر والمذهب والدين والأعراف لدى جميع أفرادها، أملاً في خلق نسخ مُتطابقة. أمَّا من يرفض هذا التوحيد القسري، فليس أمامه سوى طريقين: الأول هو النفاق وإخفاء مفاهيمه المُختلفة عن السائد، والثاني هو الجهر باختلافه ومواجهة ديكتاتورية المجتمع التي ترفض الخروج عن القطيع.

"دول مواطنين" لا "دول مُؤمنين"

إنَّ ظاهرة تقديس البشر وتقديس آرائهم وأقوالهم تشكِّل سلطة غاشمة على الفكر، كرَّسها الفكر الظلامي والإسلام السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، بهدف قيادتها نحو أجنداتهم المشبوهة. وبهذا لن نتمكَّن من النهوض من الركود العميق الذي أفرزته قرون من التخلُّف والاستعمار وجمود الفكر الإسلامي. وممَّا لا شك فيه أنَّ المنظومة الفكرية أو الرؤية الفلسفية التي يحملها الإنسان تُعتبر من أهمِّ الدعائم التي تُشكِّل شخصيته وتميِّزه البشري؛ فهي التي تحدِّد مساره السلوكي وطبيعة تعاطيه مع محيطه ونمط الحياة التي يعيشها، بل هي ما يحدِّد مصيره الوجودي بأكمله، هذا على صعيد الفرد. أمَّا على صعيد المجتمع، فإنَّ المنظومة الفكرية العقدية تحدِّد طبيعة العلاقات والتعاملات بين أفراده من جهة، وبينه وبين سائر المجتمعات من جهة أخرى، وهي ما يحدِّد نوع النظم "السياسية والاقتصادية والاجتماعية" التي تحكم تلك العلاقات والتعاملات؛ فهي بالتالي ما يحدِّد مكانة هذا المجتمع في سُلَّم المجتمعات البشرية.

إنَّ تحرُّر العقل لا يعني بحال من الأحوال أن ينسلخ الإنسان من دينه وهويته، بل يعني تعزيز التفكير النقدي، والقدرة على التحليل، والانفتاح على الأفكار الجديدة، والقدرة على اتخاذ قرارات مُستنيرة بناءً على التفكير المُستقل.

وفي سياق الإسلام، يمكن أن يُعزِّز تحرُّر العقل فهم النصوص الدينية بعمق أكبر، ويجعل الشخص قادراً على التمييز بين التعاليم الأساسية للدين والتفسيرات الفردية أو الثقافية.

والإسلام نفسه يدعو المسلمين إلى التفكُّر والتدبُّر في خلق الله والكون، وهو ما يتماشى مع فكرة تحرير العقل ضمن إطار الإيمان. فالتفكير والتدبر يُعدَّان جزءاً لا يتجزَّأ من الممارسة الدينية في الإسلام، حيث يحثُّ القرآن الكريم على استخدام العقل والتفكير في العديد من الآيات.

لذا، يمكن أن يتعايش تحرُّر العقل مع الحفاظ على الإيمان الديني، بحيث يدعم كلٌّ منهما الآخر، ويؤدِّي إلى فهم أعمق وأكثر نضجاً للحياة والدين، بعيداً عن الترويج البشري للقدسية والمنظومات الظلامية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة